من قلب مدينة المحمدية، وُلِد عشق الكرة في صدر رجلٍ نذر عمره لتكوين الأجيال. هو المدرب سنينة مختار، الذي اختار طريق البناء بدل الأضواء، فصنع اللاعبين بصمت، ونحت أسماء كثيرة في صخر النكران. أكثر من عقدين في التدريب، بدأها من الصام، وعاش كل فصولها برجولة، مبادئ، وكرامة لا تهتز.في هذا الحوار ليومية 90 دقيقة نفتح صندوق الذاكرة مع أحد أعمدة التكوين في الغرب الجزائري، نعود معه إلى البدايات، نستعرض المحطات،
من هو سنينة مختار لمن لا يعرفك؟
” سنينة مختار، من مواليد 14 ديسمبر 1978 بالمحمدية، ولاية معسكر. مدرب كرة قدم ورئيس نادي كاسترانوفا، دخلت عالم التدريب منذ سنة 1999، البداية كانت من فريقي الأول وفريق القلب سريع المحمدية. منذ أول يوم وضعت فيه قدماي في عالم التدريب، آمنت برسالة واحدة، تكوين لاعب وإنسان في نفس الوقت. لم أبحث عن الشهرة، بل عن الأثر. مررت بكل مراحل التكوين، وساهمت في صناعة أجيال كثيرة على مدار أكثر من 25 سنة.”
كيف بدأت علاقتك مع التدريب؟
“بدايتي الفعلية كانت مع جيل مواليد 1987 و1988 و1989، وكانت تلك السنوات هي حجر الأساس لتجربتي الطويلة. كنت شابًا متحمسًا، أعمل بكل قلبي رغم قلة الإمكانيات. ومع مرور الوقت، تدرجت مع الأجيال حتى وصلت إلى جيل مواليد 2014، 2015 و2016. لقد واكبت تطور كرة القدم على مدار ربع قرن، وتعلمت من الميدان أكثر مما تعلمت من أي دورة تكوينية. كل مرحلة مررت بها زادتني نضجًا وحبًا لهذه المهنة الصعبة.”
من هم الرؤساء الذين عاصرتهم في سريع المحمدية؟
“لقد عاصرت تقريبًا كل من مرّ على رئاسة سريع المحمدية، بداية بالرئيس التاريخي الحاج صافا، ثم عبد الحق، وبعده حميدة رحمه الله، وبراشد رحمه الله، ثم مختار بصديق، الشامي، الدكتور بلعريبي (فترة الديركتوار)، زياد عبد القادر، نور الدين بن فطة، وأخيرًا الحبيب بن فطة. ولكل واحد منهم طريقته في التسيير وشخصيته الخاصة. بعضهم كان حازمًا، وبعضهم كان ميدانياً، .”
من الرئيس الذي ارتحت في العمل معه أكثر؟
“بكل صراحة، أكثر من أحببت العمل معه هو نور الدين بن فطة. رجل ميدان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا يعرف التهاون ولا التسيير العشوائي. في عهده عاشت الفئات الصغرى أزهى فتراتها، حيث وفر كل ما نحتاجه: كرات، ألبسة، تنقلات، مبيت، وحتى الأحذية كانت توزع مرتين في الموسم. لم يكن يترك شيئًا للصدفة، وكان يحترم المدربين ويوفيهم حقوقهم. كنت أجد نفسي أعمل براحة وأركز على التكوين، دون أن أضيع وقتي في البحث عن الإمكانيات أو الدعم.”
ما هو أفضل جيل دربته في مسيرتك مع الصام؟
“أفضل جيل دربته هو جيل مواليد 98، لأنه جمع بين الأخلاق والموهبة والانضباط. أشرفت على هذا الجيل لقرابة خمس سنوات، من فئة أقل من 12 سنة حتى تدرجوا. من بين الأسماء التي أعتز بها: لقجع أيمن أسعد، واجي العيد، مداح فؤاد، جاد جعفر، بن زينة عبد النور، فردي رياض، بوعلي أيوب، باشيك رياض، بن ساعد أمين، وغالي سفيان. هؤلاء كانوا يملكون الموهبة الصافية والتضحية من أجل الفريق، وكانت علاقتنا مبنية على الاحترام المتبادل.”
ما مبدأك في التكوين؟
“أؤمن بمبدأ الاستمرارية، لذلك لا أحب تغيير الفئة كل موسم. المدرب الحقيقي هو الذي يرافق لاعبه في كل مرحلة من مراحل النمو، ويعرف كيف يتعامل مع تطوره النفسي والبدني والتقني. التكوين لا يمكن أن يكون عشوائيًا أو مرتبطًا بالمواسم. هناك روح تتكون بين المدرب والفئة التي يشرف عليها، وهذه الروح هي التي تخلق الانسجام وتنتج لاعبين حقيقيين. التكوين بالنسبة لي مسؤولية وأمانة وليست مجرد عمل موسمي.”
هل مررت بفترات صعبة نفسيًا خلال مسيرتك؟
“نعم، مررت بفترات نفسية عصيبة، ليس بسبب المهنة بحد ذاتها، بل بسبب ما يرافقها من نفاق وتهميش وظلم أحيانًا. أن تعمل بإخلاص لسنوات وتُحارَب من أناس لم تتعامل معهم في حياتك، هذا أمر مؤلم. هناك من يحاولون تشويه سمعتك فقط لأنك ناجح، وهذا ما عشته. لحسن الحظ، كنت أملك إيمانًا كبيرًا بالله، ودعاء الوالدين كان سندي في أصعب اللحظات. بقيت واقفًا لأنني كنت مؤمنًا بأنني لم أؤذِ أحدًا، بل قدمت ما استطعت من خير لكرة القدم.”
كيف أثّر النجاح في حياتك؟
“النجاح جميل، لكنه يجلب مع الأسف كثيرًا من الأعداء دون أن تدري. يكفي أن تبرز قليلاً حتى تبدأ بعض الأطراف في محاربتك، رغم أنك لم تتجاوز أحدًا ولم تظلم أحدًا. في الجزائر، عندما تعمل بصمت وتنجح، تصبح عدوًا لِمن لم يستطع الوصول بنفس الوسائل. الكثيرون لم يعرفوني، لكن كانوا يحملون ضدي أفكارًا سيئة فقط لأنني كنت قريبًا من اللاعبين أو محبوبا من الجماهير. النجاح أصبح في بعض الأحيان تهمة، لكني تعلمت أن أواصل دون الالتفات للوراء.
ما هي أهم القيم التي تتمسك بها كمدرب؟
“الكرامة، الصدق، والوفاء. أؤمن أن كل من يشتغل في ميدان التربية قبل الرياضة يجب أن يكون قدوة في سلوكه، لا فقط في تدريباته. في زمن أصبح فيه الكذب والنفاق وسيلة للوصول، تمسكت بقيمي أكثر، وفضلت أن أخسر منصبًا أو لاعبا ولا أفقد احترامي لنفسي. أنا لا أرى التدريب مجرد كرة وميدان، بل هو بناء للرجولة قبل المواهب، وإذا فقد المدرب احترامه فلا جدوى من كل ما يقدمه فنيا.”
كيف ترى موقف اللاعبين تجاهك بعد التكوين؟
“بعض اللاعبين كانوا وفيّين، لكن الغالبية نكرت الجميل. هناك من كبر على يدي منذ أن كان في العاشرة، وسهرت عليه، وضحيت من أجله، واليوم لا يرسل حتى رسالة يسأل عني. وهذا أمر يجرح القلب فعلاً. لا أطلب شكراً، ولا هدايا، لكن على الأقل كلمة طيبة أو دعاء. النكران أصبح عُرفًا في الوسط الكروي، وهذا ما جعل كثيرًا من المدربين يفقدون شغفهم بالتكوين. رغم ذلك، أواصل لأن نيتي خالصة لله، وليس لمقابل دنيوي.”
ماذا ربحت من مسيرتك الطويلة في التدريب؟
“ربحت الكثير رغم أنني لم أحصل على شهرة أو أموال. ربحت دعوات أولياء، واحترام رجال أصبحوا اليوم أطباء ومهندسين ومحامين. لا أفتخر فقط بلاعبين أصبحوا محترفين، بل أفتخر بمن صار إنسانا صالحًا ونافعًا للمجتمع. أن ترى أحد تلاميذك ينجح في حياته، ويذكرك في مجلسه، هذا مكسب لا يضاهيه شيء. هذا ما يجعلني أشعر أنني تركت بصمة، وأن ما قدمته لم يذهب هباءً.”
لماذا أسست نادي كاسترانوفا؟
“أسست نادي كاسترانوفا لأنه كان لابد من مشروع يُعيد الاعتبار للتكوين في المحمدية. لم يكن الهدف منافسة الصام أو تعويضه، بل بالعكس، أردت أن يكون رديفًا ومكملًا. كاسترانوفا هو مساحة حرة للعمل النظيف، بعيدًا عن الصراعات والانقسامات. أردته نموذجًا في التنظيم والانضباط، وبفضل الله نجحنا في جذب مواهب، وتكوين جيل جديد يؤمن بالاحتراف والعمل الجاد. لم يكن طموحي هو الألقاب، بل تخريج لاعبين صالحين للمجتمع قبل المستطيل الأخضر.”
ما موقفك من وضعية سريع المحمدية في السنوات الأخيرة؟
“أشعر بالحزن لما حدث للصام. هناك من أراد طمس تاريخه لأسباب شخصية لا علاقة لها بالرياضة. فريق صنع أسماء ونجوم، وأعاد لاعبين إلى الحياة الكروية، أصبح يُهان ويُختزل في صراعات داخلية. الصام هو هوية مدينة بأكملها، ولا يمكن لأي أحد مهما كانت نواياه أو مواقعه أن يمحوه من قلوب الناس. نحن نُدين للصام بالكثير، ومن العار أن يُقابل هذا الفضل بالنكران أو التجاهل. التاريخ سيُنصف هذا الفريق عاجلاً أو آجلاً.”
هل شعرت في لحظة أنك غير مُقدَّر رغم عطائك؟
“نعم، شعرت كثيرًا أن ما أقدمه لا يُرى، ولا يُقدر. في بعض الأحيان تجد نفسك وحدك، بعد سنوات من العطاء. لا أحد يتصل بك، لا أحد يسأل عنك، حتى اللاعب الذي ربيته، قد لا يتذكر حتى أن يبعث لك رسالة. هذا واقع مؤلم نعيشه كمدربين، لأننا لا نملك أضواء الإعلام ولا نُجيد المجاملة. لكنني أعود دائمًا لأقول الله يرى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وهذا يكفيني ويعوضني عن كل نكران.”
ما تعليقك على غياب أسماء كانت مخلصة مثل المرحوم بختاوي؟
“رحيل رجال مثل نور الدين بختاوي ترك فراغًا كبيرًا. هذا الرجل عاش للفريق ولم يكن يتعامل معه كمنصب أو مصلحة. حافظ على أسرار الفريق، لم يضر أحدًا، لم يُشارك في أي مؤامرة، وكان يشتغل مهما تغيرت الإدارات. هذا النوع من الرجال قليل جدًا، والفرق لا تنهض إلا بوجودهم. اليوم نفتقده، ونفتقد ضميره وروحه العالية. كان نموذجًا للمخلص الذي يشتغل بصمت ولا ينتظر المقابل.”
كيف تغيرت مهمة المدرب في السنوات الأخيرة مقارنة بالماضي؟
“مهمة المدرب اليوم لم تعد تقتصر على التكوين الرياضي فقط، بل أصبحت تشمل حماية اللاعب من المخاطر الاجتماعية والانحرافات السلوكية. في السابق كنا نحارب من أجل أن نُكَوِّن لاعبًا ناجحًا داخل الميدان، أما الآن فنجد أنفسنا نحارب من أجل إنقاذه من الشارع، من رفقة السوء، ومن الإدمان على وسائل التواصل. تغيرت الأولويات، وتغيرت التحديات، ولم يعد المدرب فقط من يعلم الكرة، بل أصبح أبًا، ومربيًا، ومستشارًا نفسيًا في آنٍ واحد.”
كيف ترى عقلية الجيل الكروي الجديد؟
“الجيل الحالي أصعب الأجيال تعاملًا. اللاعب اليوم يريد كل شيء بسرعة، دون صبر أو اجتهاد، متأثرًا بما يراه على الإنستغرام والتيك توك أكثر مما يتأثر بكلام مدربه. القيم تغيّرت، وأصبح من الصعب غرس روح التضحية والانضباط. التعامل مع هذا الجيل يتطلب ذكاءً كبيرًا وقدرة على احتوائه دون أن تفقد هيبتك. المدرب اليوم إذا لم يكن مثقفًا ومتابعًا للتحولات، فسيفشل في كسب قلوب لاعبيه، رغم كفاءته الفنية.”
ما فلسفتك في التعامل مع الظروف الصعبة؟
“أنا إنسان ميداني، تعلمت من الحياة أن لا أستسلم أبدًا. مررت بسنوات قاسية، عشت التهميش، والتجريح، لكنني لم أترك الميدان أبدًا. العمل وسط الفقر أفضل من الراحة وسط النفاق. ما دامت صحتي بخير، سأبقى أشتغل وأمنح خبرتي لكل من يحتاجها. كل صدمة مررت بها زادتني عزيمة، وكل خذلان تعرضت له زادني وعيًا. قوتي ليست في إنجازاتي، بل في صمودي، ووفائي لقيمي رغم تقلب الظروف.”
ما النصيحة التي توجهها للاعبين الشباب اليوم؟
“نصيحتي لكل لاعب شاب حافظ على صلاتك، لا تجعل كرة القدم تُنسيك ربك وأصلك.الدراسة ثم الدراسة، احذر من الشارع، ومن الرفقة السيئة، فهم الطريق الأول نحو الندم. لا تعتمد فقط على موهبتك، بل اجتهد كل يوم، واسمع لنصائح من مرّوا من نفس الطريق. تذكّر أن الاحترام هو الذي يفتح لك الأبواب، لا عدد المتابعين على وسائل التواصل. النجاح الحقيقي هو أن تكون إنسانًا متزنًا، وليس فقط لاعبًا موهوبًا.”
ما هي أمنيتك الأخيرة بعد هذا المشوار الطويل؟
“أمنيتي بسيطة جدًا، لا أطلب مالًا، ولا شهرة، فقط أطلب الدعاء بعد وفاتي. أن يقول أحدهم رحمه الله، كان رجلًا نزيهًا وأمينًا. هذا وحده يُسعدني. أريد أن يُذكر اسمي بالخير، لا كمدرب فقط، بل كإنسان حاول أن يكون نافعًا في محيطه. لقد قدمت سنوات من عمري لكرة القدم، ضحيت بمستقبلي وراحتي .